الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الأربعاء، 27 يوليو 2011

تكست -العدد 14 - الانتظار - نص د.اسعد الاسدي


الأنتظار

*د. أسعد الأسدي

كانت تقف على رصيف شارع مزدحم ، مضطرب بحركة الركاب المتسارعين الى العجلات ، اوالعائدين الى بيوتهم ، وكان رفيقها يغفو تعبا في قيلولة صغيرة في احد بيوت الطرف الاخر من الحي ، لم ينس موعده معها ، غير ان التعب اعياه وقاده الى الغفوة . في دقائق انتظارها الاولى كانت ترقب حركة الشارع بأنتباه شديد ، تسكنها سعادة انتظار قادم قريب ، حد ان تلحظ كل ماحولها . وجوه الاشخاص وهم يقصدون العجلات او يغادرونها ، اصواتهم وهم يستعجلون بعضهم في الصعود او النزول ، أجساد العجلات ، ألوانها ، والكتابات والصور التي تزخرف سطوحها من الخارج . مشهد الشارع يأتيها واضحا ، يعوزه وجه رفيقها الذي سيظهر عما قريب ، في صورة تضمه والى الخلف منه بيوت صوب الحي الذي يقابلها الان . غير ان الدقائق اعقبت موعده دون ان يظهر ، وبدأ الضجر يتسلل اليها رويدا رويدا ، وصورة الاشياء من حولها صارت تفتقد الى الوضوح ، الاصوات تتداخل في ضوضاء مضجرة ، والدقائق تطول وتمط زمانها ، والعالم يفقد ملامحه آنا بعد آن ، يثقل ويدكن كأنه كتلة من رصاص تضغط جسدها . الوقت يطول ، وما حولها يذهب عدما وهي تفقد رغبتها في ان ترى ما حولها ، تنتظر صورته التي تأخرت عن الحضور ، صورة العالم تأتيها فارغة ، ممحوة ، معتمة او بيضاء ، في انتظار ان يشرق فيها وجهه ، تصم اذنيها فيهدأ الشارع ويذهب اللغو ، عسى ان يعلو في الصمت صوته معلناً قدومه من الرصيف البعيد . عندما غادر قيلولته بعد دقائق طويلة قلقة جاء يركض لاهثا ، يصعب ان تعبر لسانه الحروف ، والكلمات تقطعت وتناثرت دون ان يلمها الاصغاء . كان رفيقها الملل . في زمان انتظار طويل يغلق الوعي فوهاته امام عالم يسوده الفراغ والعدم ، ويسكنه الخواء والغياب والضجر .

زمان الانتظار مفصل تعالق وتمايز وتباعد بين الافعال ، يسبق كل فعل ويتلوه ، لا يتبع فعل فعلا قبل ان يلج بينهما زمان انتظار تكون معاينة‘ الفعل القادم إشغالاً معقولاً له ، ومع ان الانتظار لايلغي ديمومة الزمان وتواصله ، الا انه يقدم اكثر من محض زمان يمر ، بل زمان مكثف يبدو كأنه بعض فعل الانتظار ، فيثقل الشعور به ويزيد . يقول ( بيكيت ) ( لاشيء يحدث في الأنتظار ) ( 1 ) ، وقد يكون الانتظار هو كثير مما يحدث في الانتظار ، واقعة زمانية مميزة ، شعورية وذهنية ، مشغولة بمعطيات قادمة في تلقي العالم ، يمكنه ان يسكن واقع مكاني يتداخل مع الزمان في نية عناية واشغال وانشغال ليكون المعطى المكاني بعض كثافة الزمان الذي يمر ، وكثافة الاحساس به ، فيكون موضوع انشغال الزمان لا محض فضاء لعبوره . وإذ يحار المكان أحيانا في كيفية مضي الزمان تنسج فيه العمارة ملامح وخصائص شكلية تفصيلية ثرية بالتعقيدات والتنويعات والحركة ، وهو نهج في إشغال السطوح المكانية والبرهات الزمانية لتكثيف ظاهرة وإثرائها لتمثل مفصل علاقة بين الوقائع والاشخاص والافعال ، يمكن لك ان تصادفها في انتظار نزول العطايا الصلبة وهي تأتي بخمول ممل ، متغافلة عن صوت منبه عجلة سائق متبرم يمضي وقت انتظاره خارج اسوار المنزل ، او في انتظار بياض دافيء لدن يلهو رفق ضجيج اواني ملطخة بالدهون ، تلقى العناية وتمضي الدقائق الطويلة تغطس في حوض الماء كي تلمع من جديد ، وملابس وسخة مدعوكة تسرق الدقائق العديدة هي الاخرى بلؤم واضح الى حين تزهو بلون متألق ورائحة نظيفة تمد زمان الانتظار حتى يذوي الدفء . وقد تلقاها اذ تقصد مكتب مسؤول اداري مهم مشغول بسواك ، يستقبلك فضاء انتظار لتمضية بعض الوقت ، تدرك فيه عناية مكانية لافتة ، هدوء وجهاز تلفاز وبعض صحف ومجلات ولوحة معلقة على الجدار ، هي مكونات تعدك بزمان قادم طويل ، تنشغل معك في كيف يمكن ان تمضيه . وفي عيادة الطبيب ، مكان ضيق ، يزدحم بمراجعين ذوي وجوه تعبة ، متألمة وشاكية ، يلوّن ملامحها عناء ولوعة تنسيانك ألمك ، يراودك إنتظار قلق مشدود الى ما هو قادم ، تثريه رغبة إختصار الدقائق والساعات كي يحل البعيد في الآن ، وقد ينفق الزمان في الأبتعاد عن مصدر شد وإعياء يحل في الماضي ، ترغب في التحرر منه والتخلّص من أهواله .

يسكن الانتظار المدينة وهي تصحو مبكرة عند الفجر ، شوارعها خالية ، وأسواقها تنتظر وصول رواد أول الصباح ، يفدون فرادى ومجتمعين ، يتحركون ، يشغلون المساطب منتظرين العجلات التي تقلهم من مكان الى آخر ، وإذ يشغلون الأرصفة يوقظون الانتظار ويجلسونه الى جوارهم على سطوح المساطب ، يوقفونه تحت ظلال الأشجار لائذاً من الشمس . وأنت تقود عجلتك ، ترقب وقوف الاخرين على الأرصفة ، بعضهم ينتظر بعضاً ، وتدرك كم هي مشاعة ثقافة الانتظار ، وكم هو طويل ومهدور زمان الانتظار ، زمان جوار اخر ، وزمان تبع اخر ، يسير في بطء ، ينتظر في خيلاء . وتلقى المظلات ، سقائف صغيرة ، معدنية مصبوغة ، او خرسانية حائلة ، بظلال قليلة تعبر فضاءاتها الريح ، وعيونها شاخصة نحو الفراغ تترقب صورة هلامية لقادم في ضوء النهار وشمسه الحارقة ، تتراقص بعيدة في الهواء ، غير انها تقترب وتتضح . يمكث الانتظار في الهنا ويرقب الأماكن هناك ، يطويها ويلمها الى المظلة الواقفة في الشمس و ظلالها الدافئة ، وبدل ان تلوذ امكنة الانتظار في داخلها نجدها تندفع فوهة تضيق او تتسع تبع شعور متلهف وحارق في ترقب من يمكث هناك في الضفة الثانية ، على امل ان يأتي وقد لا يأتي ، يسكنه البرود ناسياً انه موضع انتظار ، يبدأ وتتسع فوهة الفضاء نافذة لقبول المأمول ، تمرالدقائق وتطول ، تضيق الفوهة ، تصير قرصا نافذاً الى البعيد ، واذ يكون جدار الانتظار شفافا تحل فيه ساعة اليأس العتمة . يشعرنا الزمان ( بالملل حين يمر بطيئاً متثاقلاً ونحن في إنتظار زائر لمّا يأتِ بعد ) ( 2 ) .

في احيان كنت






افتقد الهدوء ، وأحار ان اختار ما افعله ، عندما تتنافس امامي الخيارات . اكون في الشارع ، أتوقف عن المشي ، اقصد احدى المساطب ، لا انتظر الباص بل انتظر وصولي الى اختيار ما . اجلس على خشبة المسطبة ، في ظل سقيفتها القليل ، عيناي مفتوحتان ، تصلني حركة الشارع
دائبةً ، يشغلني التفكير بخيارات أفعالي الممكنة ، اديرها في رأسي واعقد بينها المقارنات ، أتبين عوامل تفضيل احدها على الاخر ، افكر طويلا حتى أرسو على بر أختاره ، بعدها يعاودني الهدوء ، أغادر المسطبة ، والتقي حركة الشارع من جديد ( اللحظة الاخيرة ... طويلة ، كما يقول بيكيت ، لكنها ستكون جيدة ) ( 3 ) يريد أغراءنا بقبول الانتظار وإن كان طويلا ، لأنه يعد بمصير مثير ونهاية جميلة .

------------------------------------------------------------------------

هوامش

( 1 ) بيكيت ، في انتظار جودو ، ص 85

( 2 ) ديفيد بوم الكون المراة ، ص 89

( 3 ) بيكيت ، م . س . ، ص 41 *أكاديمي عراقي

الـعـــــودة للصفحــــة الرئيســـــة – العـــدد 14

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق