الصفحـــــــة الرئيـســـــــــة

الخميس، 28 يوليو 2011

تكست -العدد 14 -بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية بين الواقع والمثال كتب*جاسم العايف


بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية بين الواقع والمثال

*جاسم العايف

يحدد الناقد "جميل الشبيبي" في كتابه "بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية القصيرة- محمد خضير إنموذجاً"* ظهور قصص الرؤيا في العراق بين عامي 1909 -1920 وبحسب كتاب "نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق" للدكتور عبد الإله احمد، متخذة الأحلام أو الرؤيا في المنام أساساً في بنيتها وكان الهدف لهذا النوع من الكتابة الأدبية هو" تنوير المجتمع وتثويره باتجاهات مغايرة للاحتلال العثماني والبريطاني" الذي أعقبه ، ويعزو الناقد الشبيبي السبب الذي دعا كتاب تلك المرحلة لاعتماده، إلى الاعتقاد المترسخ في الذاكرة الجمعية الشعبية بأهمية الرؤيا في كشف المجهول والتنبؤ بالمستقبل ، كما انها-الرؤيا- تعتبر وسيلة للتخفي من بطش القوى المتحكمة اجتماعياً آنذاك،ويعدها بأنها"تقنية ، تستخدم الخيال المقنن،ومفارقة الواقع المعيش،لإنشاء الرؤيا البديل" والسارد فيها ، متحدثا غالبا بـ"ضمير الأنا" مؤشراً زمن الرؤيا ومكانه ، كما يستثمر القاص في تلك الرؤى تقنيات الحلم،بشكل بدائي، حيث يلتقي السارد أشخاص خياليين او ممن وردت سيرهم أو أسمائهم في السجلات التاريخية، ويحدد الشبيبي بنية الرؤيا وسماتها بالنقاط التالية-: السارد فيها يمتلك حرية التنقل في مكان الرؤيا ، ولقاء السارد بشخوص يمكن اعتبارهم من العوامل المساعدة في تحقق الرؤيا، وان معظم قصص الرؤيا تتداخل فيها الأزمان أو تتوقف،وبعد اكتمال الرؤيا او تحقق الحلم يعود السارد الى واقعه مؤكداً إن ذلك كان حلماً ، وهي تقنية يذكر الناقد أن بعض الفلاسفة المسلمين اعتمدوها لكتابة قصص يصفها بـ"الرمزية لطرح وتوضيح مفاهيمهم الفلسفية الدينية". وخلال بحثه في القصة العراقية يرى إن هذه الأعمال الأدبية نشرت جميعها تحت مصطلح (الرؤيا) ويستثني القاص(عطاء أمين) الذي ذكر في هامش عند نهاية رؤياه( كيف يرتقي العراق)جاء فيه:" كل ما جاء في هذه القصة من الاخبار والأوصاف والصلوات حقيقية لا دخل فيها للخيال"، ويعد الشبيبي أن الدكتور عبد الإله احمد أول مَنْ استخدم مصطلح (قصص الرؤيا) وكان له فضل الريادة في التعريف بها، إلا انه- د. أحمد- لم يذهب الى توصيفها نظريا أو يعمد لتحديد نقدي واضح لاشتقاق المصطلح أو التعريف به ، وكل الكتابات النقدية التالية لكتاب د. عبد الإله ،"نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق" ، اعتبرت هذه الاعمال من النوع القصصي البدائي باستثناء الناقد الأستاذ "ياسين النصير"، الذي وضع لها مواصفات خاصة ، مقترحا قراءتها بصفتها "ليست بالمقامات ولا بالقصص الحديثة وإنما: هي نمط له فنيته وخصائصه" . يلاحظ الناقد الشبيبي إنه وفي منتصف الستينيات من القرن المنصرم بروز اتجاه في القص العراقي القصير بدأ بتوظيف الأحلام والكوابيس لإنشاء عالم عده بالـ"فنتازي" تسوده "الرؤى الخانقة" ، وأعاد ذلك إلى الاستثمار الواضح لمنجزات علم النفس التحليلي على وفق مفاهيم " فرويد" وكشوفاته المختلفة لعالم اللا شعور. وفي الواقع ان ذلك صائب ، إلا انه لم يتطرق إلى الدوافع والمسببات التي حدت بقصاصي المرحلة الستينية ، اعتماد تلك التقنيات ، ولعل جزء منها يعود إلى الهزائم العامة الاجتماعية التي أصابت الحلم العراقي جراء الإحداث المرعبة التي ميزت الحياة العراقية منذ تموز 1958 ، وما تلاها من فجائع تعرض لها المجتمع العراقي وأصابت أحلام ورؤى وتطلعات ومشاريع الانتلجينسيا العراقية في الصميم ، وقد خضع القاص العراقي في تلك المرحلة لتأثيرات وضغوط اجتماعية- سياسية متواصلة متوترة،مما انعكس بوضوح على نتاجا ته القصصية وطرائقه السردية بأشكال مختلفة من انفعالات ذاتية وأزمات فكرية، وعوامل أخرى لا مجال للتطرق إليها في هذه القراءة الملخصة. يؤكد الناقد "جميل الشبيبي" ان القاص العراقي "منذ نشأة القصة العراقية ولغاية اليوم دأب على التجريب والتجديد في أشكاله الفنية"، ومع عمومية هذه النظرة وشموليتها لكل التراث القصصي السردي العراقي دون استثناءات ما، ألا أنه يستدرك و يحدد بعد ذلك أهم الانعطافات في السرد العراقي القصير بما أسماه تاريخيا بـ"القصة الواقعية الخمسينية"عندما أُعتمد "تيار الوعي" وتم توظيفه فنياً في القص العراقي القصير ، وفي الستينيات تم استثمار "الحقول المجاورة فنياً للسرد" ومنها"الرسم والسينما" وبذا تكون القصة العراقية القصيرة، قد غدت على "عتبات التجديد والتجاوز كنزعة أصيلة فيها" ، محدداً أن القصص العراقية القصيرة التي نشرت في بداية العقد التسعيني، وهو العقد الذي شهد حصاد حرب الثمان سنوات المدمرة والذي افتتح أيضا بحرب أخرى أجهزت على ماعافته الحرب الأولى، مسلمة العراقيين لحصار دام مرير قاس طال كل شيء، مما ولد قصة "رؤيا اتسعت واستوعبت أشكال التناص المختلفة مع لغات أدبية وغير أدبية "، كما تم، "استثمار إمكانات التقطيع والمنتجة والكولاج " وهي حقول تنتمي إلى الحقلين السينمائي والتشكيلي وبذا تم" إنشاء خطاب فني- معرفي يعمل على توسيع إمكانات القصة القصيرة العراقية ، ويمدها بنسغ يطوّرها وينوع مادتها وشكلها" . يدرس الشبيبي مجموعة (رؤيا خريف) للقاص محمد خضير كنموذج تطبيقي لتصوراته ورؤاه الفنية والنقدية عن قصص الرؤيا الحديثة في العراق. ويرى أن في هذه المجموعة تجديد واضح في فن الكتابة القصصية القصيرة من ناحية بناء الشخصيات والحبكة والمكان والزمان الواقعيين وكذلك يُفعّل القاص خضير التجديد في اللغة السردية أو ما يعرفه الشبيبي بـ "تهجين اللغة" وهو مصطلح مستعار يختص تحديداً بالملمح الأسلوبي الذي يجعل نصاً من النصوص أو لفظاً من الملفوظات ينتمي إلى سجلات وجداول لغوية ادبية و غير ادبية تختلف على مستويات البنى التركيبية والشكلية والتعبيرية - ص 168- ويؤكد الناقد انه في دراسته لمجموعة "رؤيا خريف" قد اعتمد نظام المخطوطة العربية بصفته متناً تحيطه الشروح وشروح الشروح ، وهو نظام افتراضي يجتهد الناقد في تطبيقه على المجموعة بسبب من أن القاص محمد خضير قد ذهب إلى إن قصص "رؤيا خريف" متضامنة في الرؤى ومتكافلة في البراهين ومتكافئة مع النتائج - ص41- وقد درس الناقد الشبيبي مجموعة "رؤيا خريف" من خلال بنية السارد ومكان الرؤيا وزمانها وهجانة لغة السرد وقد توصل في دراسته إلى اجتراح مصطلح نقدي جديد اسماه (السارد الرائي) بسبب من أن البنية السردية في المجموعة تمتد في الشبيه للقرين الذي يمثل تقنية ملائمة لسرد الرؤيا وبنائها، و(السارد الرائي) هنا يغدو هو الموكول بسرد الرؤيا وتجسدها عيانيا إذ انه لا يرى ما يراه السارد الاعتيادي و تتجلى أمام السارد الرائي مشاهد متداخلة بأزمان مختلفة في المكان المخصص لانبثاق الرؤيا. ويخص الشبيبي قصة (رؤيا البرج) بدراسة تطبيقية ، كما يبحث في ريادة قصص الرؤيا في العراق عاداً القاص عطاء أمين وقصته (كيف يرتقي العراق؟/ رؤيا صادقة) المنشورة في آب 1919 قصة رائدة في مجال قصص الرؤيا واكتمال شكلها في القصة العراقية الحديثة و يعيد نشرها في كتابه. يمكن اعتبار كتاب الناقد جميل الشبيبي من كتب البحث التخصصي في دراسة هذا النوع من القص الذي يعتمد(الرؤيا) القصصية التي تسعى لتقديم بديل للواقع الفظ المعيش ويكشف الشبيبي بمتابعته التاريخية والتطبيقية لهذا النوع من السرد المقترن بقدرات الذهن البشري ومعطياته المتجددة من ناحية اقتراب الواقع من المثال .

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الموسوعة الثقافية / دار الشؤون الثقافية العامة/وزارة الثقافة/بغداد .

*كاتب عراقي

الـعـــــودة للصفحــــة الرئيســـــةالعـــدد 14

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

تكست -العدد 14 -ريادة "الوردي" في التحذير من "العقلية الشعرية" كتب أ.د. حسين سرمك حسن


ريادة "الوردي" في التحذير من "العقلية الشعرية"

-------------------------------------------------

د.حسين سرمك حسن

ملاحظة: هذه الدراسة جزء من مخطوطة كتاب "النهضوي المغدور – مراجعة وتحليل الدور التنويري الريادي للدكتور علي الوردي في الثقافة العربية " سيصدر عن دار الينابيع في دمشق قريبا .

لقد تصاعدت الأصوات في نهاية الستينيات ، وخصوصا بعد هزيمة الخامس من حزيران وما فرضته من مراجعة ضرورية للذات ولبنى الحياة العربية التي ثبت خواؤها وتخلّفها عن ملاحقة التحولات المعاصرة العاصفة ، أقول ارتفعت الأصوات تدعو إلى إعادة النظر في سيطرة " النظرة الشعرية " على العقلية العربية في إدراكها للحقائق وتقييمها لها ن وهي نظرة لا تلائم هذا العصر الذي يقوم على المنطق العلمي الذي صار يتحكم بأدق تفصيلات الحياة . لقد اعتبر البعض هذه " العقلية الشعرية " التي تقوم على التفكير المجازي والأحكام العاطفية والتعريفات الفضفاضة من أسباب الهزيمة من ناحية ومن عوامل تدهور حال الأمة العربية المتزايد على الأصعدة كافة من ناحية أخرى . لكن لعلي الوردي فضل ريادي كبير في التنبيه إلى الجوانب السلبية في هذا النمط من التفكير منذ الخمسينيات . وفد بدأ بموقف عارم من النقد لميراث الشعر العربي بأكمله في البداية ثم استدرك لاحقا . يقول الوردي :

" إني في الواقع لا أحب أن أزهد الناس بالشعر أو أصرفهم عن دراسته فالشعر حقل مهم من حقول المعرفة ، ولا غنى للباحث في المجتمع العربي وتأريخه عن دراسة الشعر . ولكن الذي أريد من الناس هو أن يدرسوه دراسة حياد وإنصاف ، لا دراسة حب وتعصّب . إذا كان للشعر منافع ، فله مضار أيضا ، وربما ضرره بالأمة العربية أكثر من نفعه لها . لست أنكر على أي حال ما احتوى عليه الشعر العربي من حكمة وروعة ، إنما لا يجوز أن يمنعنا هذا من النظر في سخافاته وأباطيله في الوقت ذاته . إن الشعر كأي شيء آخر في هذه الدنيا يحتوي على المحاسن والمساويء معا . وعلى الباحث أن ينظر فيه من كلا الوجهين إذا أراد أن يكون باحثا حقا . أما التأكيد على أحد الوجهين وإهمال الوجه الآخر ، فهو أمر لا تستسيغه طبيعة البحث الحديث ".

إن دعوته الساخطة هذه إلى رفع هالة التقديس عن الشعر كانت هي المدخل الذي انطلق منه إلى الدعوة الشاملة إلى إعادة النظر في أسس التفكير السائد في العقلية العربية وتغييرها جذريا ، بتحويلها من المنطق الصوري الأرسطوطاليسي القديم السائد إلى منطق علمي جدلي حديث . إنه لم يرفض صيغة " الشعر ديوان العرب " حسب بل رفض دعوة من اعتبره " توراة الأمة " كالدكتور " محي الدين " . فالتوراة نفسها لها محاسن ومساويء ، ودارسوها في الغرب يبحثون فيها بحثا محايدا ، فمثلما فيها من قصص ومواعظ للأنبياء ، فيها خرافات وأباطيل وأوهام . ومن المفروض – حسب الوردي – أن ينحو دارسو الشعر العربي هذا المنحى . يقول أيضا : " الشعر العربي مملوء بالمساويء . وأستطيع أن أعدّه بلاء ابتليت به الأمة العربية في جاهليتها وإسلامها . وكثيرا ما ينفع البلاء " . ويمكنني أن أعد موقف الوردي في العراق الناقم على الشعر العربي القديم والرافض لمرجعيته المعرفية المهيمنة على الحياة العقلية العربية في الخمسينيات مشابها في تأثيره لموقف الدكتور " طه حسين "




في مصر الذي فجّره عام 1924مع الفارق الواسع بين طبيعة الدعوتين وأهدافهما ، والاتجاه " الإيجابي " لدعوة الوردي مقابل الاتجاه " السلبي " لدعوة طه حسين عن " انتحال " الشعر الجاهلي . كانت دعوة طه حسين قريبة من روح المخالفة الساذجة وتحمل طابع " الصرعة " ، بخلاف دعوة الوردي المنهجية المدروسة . وقد كان للوردي تقييم مهم لنظرية طه حسين يوضح الفارق بينها وبين نظريته الثورية . يقول الوردي :

" وحين ندرس نظرية طه حسين التي جاء بها في هذا الصدد نجدها لا تستحق مثل هذه الضجة . إنها في الواقع نظرية واهية وفيها من السخف شيء كثير . ولكن الضجة هي التي أسبغت عليها تلك الأهمية الكبرى . وقد حاولت في العام الماضي – وحديث الوردي في عام 1956- نقد تلك النظرية في محاضرة عامة ألقيتها في قاعة كلية الآداب والعلوم. وكادت محاضرتي تحدث ضجة أخرى لولا ستر الله " .

ويهمني هنا أن أنقل نقد الوردي لنظرية طه حسين لأنها تعبّر عن العقلية النقدية الحادة التي يتمتع بها الوردي أولا وعن منهجية مشروع الوردي وقصديته من ناحية ثانية ، لأنه لو كان جهد الوردي يقع ضمن إطار قاعدة " خالف تُعرف " كما وصفه الدكتور محي الدين وغيره من خصومه لكان قد وجد في مساندة نظرية طه حسين ما يعزّز " صرعته " المخالفة وحضوره التحرّشي . لكن الوردي يشتغل على مشروع معرفي تنويري تثويري . يقول الوردي :

" يعتقد الدكتور طه حسين أن الشعر الجاهلي الموجود بين أيدينا ليس جاهليا ، إنما هو منحول اختلقه الرواة في عصر متأخر . واستند الدكتور في ذلك على مقارنة الشعر الجاهلي بما جاء في القرآن من وصف لحياة الجاهلية أو انتقاد لها . يقول الدكتور طه ، إننا حين ندرس القرآن نجده يمثل أهل زمانه تمثيلا مباينا لتمثيل الشعر لهم ، ونحن مخيّرون إذن بين أن نكذّب القرآن أو نكذّب الشعر الجاهلي . ولمّا كان القرآن صادقا فلا بد أن يكون الشعر هو الكاذب أو المكذوب " . ثم يلخّص الوردي الفروقات التي أقام على أساسها طه حسين مقارنته بين الحياة التي يمثلها القرآن وتلك التي يمثلها الشعر الجاهلي وفق المقارنة التي عقدها طه حسين فيحدّدها بما يلي :

1- يمثل القرآن لنا حياة دينية قوية تدعو أهلها إلى أن يجادلوا عنها ما وسعهم الجدال ويعلنوا في سبيلها الحرب التي لا تبقي ولا تذر . أما الشعر الجاهلي فيمثل لنا حياة غامضة جافة بريئة أو كالبريئة من الشعور الديني القوي والعاطفة الدينية المتسلطة على النفس وعلى الحياة العملية .

2- والقرآن يمثل حياة عقلية قوية وقدرة على الجدال والخصام في مسائل فلسفية كالبعث والخلق .. أما الشعر الجاهلي فيمثل حياة الجهل والغباوة والخشونة ..

3- والقرآن يحدثنا بأن العرب كانوا على اتصال بمن حولهم من الأمم .. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب كأنهم أمة منعزلة في صحرائها ..

4- والقرآن يحدثنا عن انقسام المجتمع العربي إلى طبقات .. ويذكر ما كان في العرب من بخل وطمع وظلم وبغي و أكل أموال اليتامى .. أما الشعر الجاهلي فيمثل العرب أجوادا كراما مهينين للأموال مسرفين بازدرائها .

5- والقرآن يذكر البحر والسفن واللؤلؤ والمرجان وغير ذلك من شؤون الحياة خارج الصحراء . أما الشعر الجاهلي فلا يعرف غير حياة البادية " .

هذه هي الخلاصة الشافية التي يقدمها الوردي وهي وافية أيضا ؛ يدرك ذلك من قرأ كتاب طه حسين . لكن النباهة الوردية تظهر في النقد الذي يقدّمه لهذه النظرية والذي يستهله بالالتقاطة الحاذقة عن أن النقّاد الذي انبروا ليعارضوا وينتقدوا ما طرحه حسين حول منحولية الشعر الجاهلي لم تخرج أدلتهم وبراهينهم عن النطاق الذي افترضه طه حسين مقدّما في كتابه . أي أنهم استدرجوا إلى المصيدة التي نصبها بذكاء طه حسين ، حيث أخذوا يأتون بالأدلة من الشعر الجاهلي للتدليل على أن هذا الشعر بحث كل جوانب الحياة التي تناولها القرآن ، وبذلك فهو يمثل الحياة الجاهلية أصدق تمثيل. ثم يقدم الوردي وجهة نظره النقدية التي تفنّد نظرية طه حسين والتي أقتطع منها مدخلها وأترك للقاريء الكريم الإطلاع عليها كاملة في كتاب الوردي " أسطورة الأدب الرفيع " – الصفحات 122إلى 127. يقول الوردي – ولاحظ البساطة في الاستنتاج - :

" نسي هؤلاء ، كما نسي الدكتور طه حسين ، شيئا واحدا كان الجدير بهم أن لا ينسوه . وبهذا ضاعت جهودهم وجهود دكتورهم هباء . لقد نسوا أن القرآن يمثل الحياة الجاهلية من زاوية تختلف عن زاوية الشعر الجاهلي ، وأن كليهما كان صحيحا في تمثيله بالرغم من تفاوتهما في التصوير . مما يجدر ذكره أن القرآن يمثل ثورة اجتماعية ودينية ضد المترفين الذين كانوا يسيطرون على المجتمع المكي . إنه كان بعبارة أخرى يحارب قريشا وينتقد وثنيتها ورباها واستعلاءها وبغيها ونكثها بالعهود . أما الشعر الجاهلي فكان غير مكترث بمكة وبما يجري فيها . إنه لا يرى مكة إلا في موسم الحج ، وهو يراها حاشدة بالناس وقد امتلأت بالثريد الذي كانت قريش تقدمه لهم وفيرا . كان الشعر الجاهلي في معظمه يمثل الحياة البدوية التي تسود القبائل خارج مكة . وليس عجيبا بعد هذا أن نجده مختلفا عن القرآن في تصوير الحياة . إنه بواد والقرآن بواد آخر . وشتّان ما بين الواديين " . ثم يطرح الوردي عاملا آخر لم ينتبه إليه طه حسين ، ولا – ويا للمفارقة – ناقدوه – ويتمثل في ضعف الملكة الشعرية لدى الأفراد في قبيلة قريش وما يترتب على ذلك من أن الشاعر الذي يأتيها من الصحراء في موسم الحج أو في مواسم أخرى طمعا في مكرمات زعمائها حتى لو كانت مضامين قصائدهم مناقضة تماما لما يجري من مفاسد ومظالم في الحياة اليومية لقريش :

" المعروف عن قريش أنها كانت أقل حظّا في نظم الشعر من القبائل العربية الأخرى . ولعلها كانت تتخذ من رعاية الشعر – وهذه لعمري وجهة نظر فريدة تفسّر اهتمام بعض المدن برعاية الشعر والشعراء رغم

أنها حضاريا وثقافيا وتاريخيا غير وثيقة الارتباط به – ما يعوّضها عن نظمه ، كما هو شأن الأغنياء المترفين في كل زمان ومكان . فكان شعراء البادية يقصدون قريشا لينشدوا بين يديها قصائدهم ويستلموا منها الجوائز . ولم يكن يهمهم عندئذ من أين تأتي قريش بالمال في سبيل ذلك . ولو أنهم كانوا من أهل مكة ويشهدون ما يجري فيها من ظلم وربا وبغي ، لكان شعرهم من نمط آخر في أرجح الظن ".

وقد اعترض علي أحد المثقفين العراقيين المعروفين حينما تحدثت في إحدى المحاضرات بدمشق عرضيا عن دور أفكار الوردي في التمهيد لثورة 14تموز 1958بالقول أن في استنتاجي مبالغة وتضخيما للحوادث . قلت أن الوردي لم يترك أية فرصة بريئة إلّا وانتهزها بمكر لمهاجمة السلطات الدكتاتورية والعسكرية والإقطاعية التي كانت قائمة آنذاك . هنا يتحدث عن نظرية أدبية وتاريخية للدكتور طه حسين ، لكنه لا يدع الفرصة تفلت دون أن يهاجم واحدة من السلطات القامعة للشعب العراقي فيشبه أهل مكة " البدو الذين فسدوا لأنهم تحضّروا " بإقطاعيي العراق آنذاك :

" ونستطيع تشبيه زعماء قريش في الجاهلية بشيوخ العشائر في أيامنا . فالشيوخ الآن يعتزون بعصبيّتهم القبلية ، ولكنهم يعيشون في المدن وينغمسون في ترفها ورذائلها انغماسا شائنا . وتجد بعضهم داعرا سكّيرا مقامرا يبذل أمواله على الراقصات . وإذا اعترضت عليه رفع عقيرته قائلا بأنه من أبناء الأكرمين . وهو فوق ذلك يستغل جهود عشيرته استغلالا فظيعا ، ثم يأتي بالمال لينفقه في المدينة كما يشاء على من يشاء . وليس من النادر أن نجد فيهم من يقيم الولائم ويعطي الجوائز للأدباء والشعراء كما كانت قريش تفعل في قديم الزمان " .

ولكن بعد هذه الجرعة المعارضة النقدية السامّة يعود الوردي إلى " عسل " الطرح النقدي الذي يتناول به نظرية – والأصح فرضية – الدكتور طه حسين والذي أسّسه على فرضية مضادة تتمثل في أن المجتمع المكي يختلف عن المجتمع البدوي وهذا هو سبب ما نرى من فرق كبير بين القرآن والشعر في تصوير الحياة الجاهلية ، فيقول :

" ولست أدري لماذا لم يلتفت الأدباء ، وعميدهم الدكتور طه حسين ، إلى هذه الناحية الهامة عند دراستهم للأدب الجاهلي . لعلّهم انهمكوا بعلوم البيان والمعاني والبديع فانشغلوا بها عن الإصغاء إلى ما يقوله علم الاجتماع في هذا الشأن . إنهم سيبقون مشغولين بتلك العلوم إلى ما شاء الله " .

وقفة مع هشاشة أطروحة طه حسين:

----------------------------------

تتجسد هشاشة مشروع طه حسين ، وحتى سذاجته ، في أن ليس المثقفون والنقاد هم من أمسكوا بنقاط ضعف مشروعه في "إنتحال الشعر الجاهلي" والطعن في القرآن الكريم، وكشفوا ثغراته وتهافته حسب ، بل أن رئيس نيابة مصر "محمد نور" الذي حقق معه بشكل مباشر قد أطاح بآرائه كاملة، ووضعه في زاوية معرفية مزرية ، فأي مشروع معرفي ضخم هذا يفند أسسه رئيس نيابة؟!. والمشكلة أن طه حسين قد عجز في مواقف كثيرة عن الدفاع عن آرائه أمام تساؤلات رئيس النيابة حد أن الأخير قد وصفه ووصف مشروعه بأوصاف ساخرة وتهكمية. كما كشف التحقيق قيام طه حسين بـ "تزوير" بعض الشواهد القديمة التي اعتمدها كأدلة تدعم وجهة نظره وهذا يخالف أسس البحث العلمي التي كان الدكتور نفسه ينادي بها!!. يقول رئيس النيابة: ( .. ومن حيث أن المؤلف بعد أن تكلم في الفصل الثالث من كتابه "في الشعر الجاهلي " على أن الشعر المُقال لا يمثل الحياة الدينية والعقلية للعرب الجاهليين، وأراد في الفصل الرابع أن يقدم أبلغ ما لديه من الأدلة على عدم التسليم بصحة الكثرة المطلقة من الشعر، فقال إن هذا الشعر بعيد كل البعد عن أن يمثل اللغة العربية في العصر الذي يزعم الرواة أنه قيل فيه (...) وهنا يجب أن نلاحظ على الدكتور مؤلف الكتاب: أنه خرج من بحثه هذا عاجزا كل العجز عن أن يصل إلى غرضه الذي عقد هذا الفصل من أجله .. ولم يوفق إلى الإجابة بل خرج من البحث بغير جواب، اللهم إلا قوله : "إن الصلة بين اللغة العدنانية وبين اللغة القحطانية إنما هي كالصلة بين اللغة العربية وأي لغة من اللغات السامية المعروفة" وبديهي أن ما وصل إليه ليس جوابا عن السؤال الذي وضعه. وقد نوقش في التحقيق في هذه المسألة فلم يستطع رد هذا الإعتراض. ولا يمكن الاقتناع بما ذكره في التحقيق من أنه كتب الكتاب للأخصائيين من المستشرقين بنوع خاص وأن تعريف هاتين اللغتين عند الأخصائيين واضح لا يحتاج لأن يُذكر، لأن قوله هذا عجز عن الجواب. كما ن قوله إن اللغة الجاهلية في رأيه ورأي القدماء والمستشرقين لغتان متباينتان لا يمكن أن يكون جوابا عن السؤال الذي وضعه، لأن غرضه من السؤال واضح في كتابه، غذ قال: "ولنجتهد في تعرّف اللغة الجاهلية هذه وما هي" وقد كان قرر قبل ذلك: "فنحن إذا ذكرنا اللغة العربية نريد بها معناها الدقيق المحدود الذي نجده في المعاجم حين نبحث فيها عن لفظ اللغة ما معناه، نريد بها الألفاظ من حيث هي ألفاظ تدل على معانيها، تستعمل حقيقة مرة ومجازا مرة أخرى، وتتطور تطورا ملائما لمقتضيات الحياة التي يحياها أصحاب هذه اللغة". فبعد أن حدد هو بنفسه معنى اللغة الذي يريده فلا يمكن أن يُقبل منه ما أجاب به من أن مراده أن اللغة لغتان بدون أن يتعرف على واحدة منهما... إن الأستاذ قد أخطأ في استنتاجه بغير شك، ونستطيع أن نقول إن استنتاجه لا يصلح دليلا على فساد نظرية الرواة التي يريد أن يهدمها، وأنه إذا ما ثبت وجود اختلاف مهما كان مداه بين اللغتين فإن هذا لا ينفي صحة الرواية التي يرويها الرواة من حيث تعلم اسماعيل العربية من جرهم، ولا يضيرها أن الأستاذ المؤلف ينكرها بغير دليل، لأن طريقة الانكار والتشكك بغير دليل طريقة سهلة جدا في متناول كل إنسان عالما كان أو جاهلا...) ثم يتعرض رئيس النيابة لخروقات طه حسين لشروط الأمانة العلمية فيقول: ( على أننا نلاحظ أيضا على المؤلف أنه لم يكن دقيقا في بحثه. وهو ذلك الرجل الذي يتشدد كل التشدد في التمسك بطرق البحث الحديثة. ذلك أنه ارتكن إلى إثبات الخلاف بين اللغتين على أمرين الأول ما روي عن أبي عمرو بن العلاء من أنه كان يقول: "ما لسان حمير بلساننا ولا لغتهم بلغتنا"، والثاني قوله: "ولدينا الآن نقوش ونصوص تمكننا من إثبات هذا الخلاف في اللفظ وقواعد النحو والتصريف أيضا". أما عن الدليل الأول فإن ما رواه إبن سلم مؤلف "طبقات الشعراء" عن أبي عمرو بن العلاء "ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا ولا عربيتهم بعربيتنا". وقد يكون للمؤلف مأرب من وراء تغيير هذا النص، على أن الذي نريد أن نلاحظه هو أن ابن سلام ذكر قبيل هذه الرواية في الصفحة نفسها ما يأتي: " وأخبرني يونس عن أبي عمرو قال: "العرب كلها ولد اسماعيل إلا حمير وبقايا جرهم" فواجب على المؤلف إذن وقد اعتمد صحة العبارة الاولى أن يسلم بصحة العبارة الثانية، لأن الراوي والمروي عنه واحد. وتكون نتيجة ذلك أنه فسر ما اعتمد عليه من أقوال أبي عمرو بن العلاء بغير ما أراده، بل فسره بعكس ما أراده، ويتعين اسقاط هذا الدليل... وأما عن الدليل الثاني فإن المؤلف لم يتكلم عنه بأكثر من قوله "ولدينا الآن نقوش .. إلخ" فأردنا عند استجوابه أن نستوضحه ما أجمل فعجز .." ثم يمضي رئيس النيابة في تسطير الحوار الذي دار بينه وبين طه حسين الذي عجز تماما عن الرد بل تهرب من الإجابة عن الكثير من الأسئلة.. إلى أن يقول: "فمتى قال أبو عمرو بن العلاء إنها لغة مخالفة للغة العرب! لقد أشرنا إلى التغيير الذي أحدثه المؤلف فيما روي عن أبي عمرو بن العلاء حيث حذف من روايته "ولا عربيتهم بعربيتنا" ووضع محلها "ولا لغتهم بلغتنا". وقلنا قد يكون للمؤلف مآرب من وراء هذا التغيير ؛ فهذا هو مأربه: إن الأستاذ حرّف في الرواية عمدا ليصل إلى تقرير هذه النتيجة" .. قرّر الأستاذ في التحقيق أنه لاشك في أن اللغة الحميرية ظلت تُتكلم إلى ما بعد الإسلام. فإن كانت هذه اللغة هي لغة أخرى غير اللغة العربية، كما يوهم أنه انتهى به بحثه، فهل له أن يُفهمنا كيف استطاع عرب اليمن فهم القرآن وحفظه وتلاوته؟ ". ثم يصل رئيس النيابة إلى استنتاج خطير يمس صميم مشروع طه حسين بأكمله – ولاحظ مثلا أن معروف الرصافي قد قوض مشروعه حول أبي العلاء المعري تماما- حين يسمه بالتخييل واللاعلمية فيقول: ".. ولكن الذي نريد أن نشير إليه إنما هو الخطأ الذي اعتاد أن يرتكبه المؤلف في أبحاثه، حيث يبدا بافتراض يتخيله ثم ينتهي بأن يرتّب عليه قواعد كأنها حقائق ثابتة؛ كما فعل في أمر الاختلافات بين لغة حمير وبين لغة عدنان... إن الأستاذ ليعجز حقا عن تقديم هذا البيان، إذ كل ما ذكره في هذه المسألة خيال في خيال ...". – راجع قرار النيابة في الشعر الجاهلي في كتاب طه حسين ، في الشعر الجاهلي، الصادر عام 2009 عن دار بترا للنشر والتوزيع ضمن سلسلة "من تراث عصر النهضة" التي تصدرها رابطة العقلانيين العرب-.

عودة :

-------

ويهمني هنا أن أنقل رأيا هاما للدكتور " محمد حسين الأعرجي "








طرحه في كتابه " في الأدب وما إليه " الصادر عن دار المدى عام 2003ولهذا الرأي الحساس صلة بريادية الوردي مقارنة بمشروع طه حسين . يقول الأعرجي :

" وإذا كان من الباحثين العرب من يعترف بهذه التلمذة – يقصد التلمذة على أيدي المستشرقين – فإن من أساتيذهم من تتلمذ ، ولا يعترف ، ولابدّ أنكم جميعا تتذكرون حديث العلامة المرحوم الشيخ "محمود محمد شاكر" في مقدمة كتابه النفيس عن " المتنبي " أن كيف واجه أستاذه عميد الأدب العربي الدكتور طه حسين بأن كتابه : " في الشعر الجاهلي " ما هو إلّا عيال على بحث المستشرق "مارگليوث" في هذا الشعر الذي كان نشره – إذا صدقت الذاكرة – في مجلة " الجمعية الآسيوية الملكية " ، والذي ترجمه فيما بعد عن اللغة الإنگليزية فنشره في كتاب الدكتور "يحيى الجبوري". أقول : لابدّ أنكم جميعا تتذكرون هذا الحديث ، وتتذكرون أيضا أن الدكتور طه قد طرد الشيخ محمود محمد شاكر من قاعة الدرس – قارنوا هذا الموقف من مواقف الوردي تجاه شاتميه ، الباحث - " وحرمه من إكمال دراسته الجامعية ، فصيّره شيخ الجامعيين في علمه يأوون إليه يستشيرونه فيما يعنّ لهم من معضلات التراث . وزاد الدكتور عبد القادر بوزيده على ذلك فأثبت في بحث لا أظنّه نُشر ألقاه سنة : 1993 في قاعة النفق الجامعي بالجزائر العاصمة ، أثبت فيه أن الدكتور طه كان في كتابه المذكور يترسّم خطى الباحثين الأوربيين فيما عُرف عندهم بالمشكلة الهوميرية "

.

وبمناسبة ذكر الوردي لانشغال الأدباء و " دكتورهم " بعلوم المعاني والبديع والبيان ، وعدم اهتمامهم بما يطرحه علم الاجتماع من نظريات وحقائق واكتشافات ، يثير الوردي معضلة جديدة . فقد يعتقد الكثيرون أن المطلوب من الأدباء – مثل طه حسين و عبد الرزاق محي الدين مثلا – الانشغال بالبلاغة بحكم " اختصاصهم " لكي يطوّروا فعلهم الإبداعي ويجوّدوا في مضماره . لكن الوردي يريد من الأديب أن يسخّر وقته لقراءة العلم ومتابعة تغيّراته لما لها من تأثيرات في حقلهم اللغوي والشعري . فما هي هذه العلاقة الجديدة التي يقترحها الوردي ؟ أنا أراها في صلب مهاجمته للعقلية الشعرية ومرتبطة مركزيا بحملته لتقويض أسس العقلية الشعرية . إنه يرى تسلّح الأديب بذخيرة من أطروحات علم الاجتماع وعلم النفس ، أكثر ضرورة له من أسلحته التقليدية المعروفة عبر المراحل التاريخية والمتمثلة في فنون البلاغة !! يقول الوردي ردّا على الدكتور محيي الدين :

" يعتقد الدكتور محيي الدين أن علوم البيان والمعاني والبلاغة ضرورية لطلاب الأدب . وأنا أعتقد بأن العلوم الإجتماعية والنفسية أجدى لهم من هاتيك العلوم العتيقة التي تقيّد العقول وتسدّ عليها منافذ الابداع " .

ويقدم الوردي تفسيرا يسبق عصره حيث جاءت الاتجاهات النقدية الحديثة لتتحدث عن أن النص الواحد هو جامع للنصوص ، وعلى التناص ، وعلى المعرفية الثقافية الواسعة اللازمة للإبداع . يقول الوردي :

" إن الأديب يكتب للناس لا لنفسه ، ومن الضروري له أن يفهم طبيعة هؤلاء الناس الذين يكتب لهم . أما إذا بقي في برجه العاجي يدرس القواعد التي جاء بها الأسلاف قبل ألف سنة ، فلا يوجد له بين الناس سوق ، وسيبقى يشتم الناس على نفورهم من " الأدب الرفيع " .

لقد كان موقف الوردي صادما للعقلية السائدة التي تنظر إلى الشعر بنوع من القداسة ، ويتفاخر كبار مثقفيها – حتى من كان اختصاصه بعيدا عن الأدب والشعر ، بأنه يحفظ الشعر ويحتفظ في بيته بمكتبة فيها دواوين فحول الشعراء . وحتى رؤساء الدول والوزراء والمسؤولون يعتبرون الشعر جزءا من مقومات ثقافتهم ، وكثيرا ما يدخلون أبيات شعر أو " هوسات " شعرية عامية لاستثارة الحماسة . لقد هزّ الوردي أركان " التابوات " الثقافية الشعرية القائمة حين راح يعدد ويحصي مساويء البلاء الشعري كما وصفه ويناقشها على صفحات الصحف :

" 1-كان الشعر في أيام الجاهلية حليفا للسيف في حروب القبائل الرعناء . وكانت القبيلة تحتفل بنبوغ الشاعر كما تحتفل بظهور الفارس صاحب الحسام البتّار .

2-وكان الشعر كذلك حليفا لعبادة الأوثان ... ولهذا كان النبي محمد في بدء دعوته يحارب الشعر كما يحارب الوثنية .

3-وفي العهد الأموي اتخذ السلاطين من الشعر وسيلة لتخدير عقول الناس وصرفهم عن فهم التعاليم الثورية الكبرى التي جاء بها الإسلام .

4-وفي العهد العباسي ساعد الشعر مساعدة كبيرة على إنشاء قواعد النحو هذه القواعد العويصة التي شلت العقول وجعلتها تدور في حلقة مفرغة.

5-وساعد الشعر فوق ذلك على تدعيم الحكومة السلطانية ، حيث كان السلطان ينهب أموال الأمة كما يشاء وينفقها على ما يشتهي ، ولكنه يأخذ قسطا مما نهب فيعطيه للشعراء . وهؤلاء لا يترددون عند ذاك عن جعل السلطان أمير المؤمنين وظل الله في العالمين ".

والوردي يرى أن النهضة الحديثة لا يمكن أن تقوم على أساس الثقافة الشعرية ، وأننا لكي نلحق بركب هذا التطور المذهل الذي يتصاعد بوتائر عجيبة علينا أن نخفف كثيرا من غلوائنا فيه – أي أنه لا يدعو إلى إلغائه لأن للشعر العربي جوانبه المضيئة ولا نستطيع إلغاءه بجرة قلم كما يقول هو نفسه - . إنه يرى أن مكانة الشعر في الدول المتقدمة قد تراجعت كثيرا ، وخير دليل على ذلك هو أن المجلات المشهورة والواسعة الانتشار مثل النيوزويك والتايم والإيكونومست والديرشبيغل وغيرها ، التي تبحث في مختلف شؤون الثقافة كالسياسة والعلوم والفنون لكنها لا تبحث في شؤون الشعر إلا نادرا . وهو يقر أن جانبا مهما من ذلك يعود إلى اختلاف الثقافتين : الغربية والشرقية ، لكن يبقى العامل الأساس هو أن المنطق العلمي هو غير المنطق الشعري :

" يمكن أن نعزو السبب في هبوط مكانة الشعر في الحضارة الحديثة إلى أن هذه الحضارة أقرب بطبيعتها إلى روح العلم منها إلى روح الشعر . فالشعر عاطفة وخيال وتحليق في عالم الذات . بينما الحضارة الحديثة تميل إلى التعمق في فهم الكون والإنسان ، وإلى التزام الموضوعية التي لا دخل للعواطف الذاتية فيها " .

وللوردي رأي مهم وسباق في الجنس الأدبي الذي سوف يحل محل الشعر مع تنامي سطوة العلم وحضوره في حياتنا . فهو يرى أن القصة هي التي سيكون لها القدح المعلى بين الأجناس الأدبية في ظل الحضارة الحديثة فهي من جانب تتغلغل في أعماق النفس البشرية وتدرس ، وفق طريقتها ، المجتمع البشري بعلاقاته الشائكة وصراعاته المتعددة ، كما أنها – وبخلاف الشعر الذي يعتمد على المجازات والاستعارات واللعب الرمزي بالصور والكلمات – يمكنها ، من جانب آخر ، أن تقدم صورا عن الحياة الاجتماعية بجوانبها السياسية والأخلاقية والتاريخية وحتى الاقتصادية ، ولذلك نجد دارسي الشخصية القومية لأي شعب يمكنهم أن يستخدموا القصة والرواية كوثيقة في أبحاثهم لأنها أكثر قدرة على تجسيد هذه الجوانب .

والوردي لا يربط – ولا أعلم هل كان رياديا في ذلك أم أن هناك من سبقه في ذلك – بين هزيمة الخامس وبين النزعة الشعرية التي تسيطر على نظرتنا إلى الحياة خصوصا في السياسة حسب بل يعتبر الشعر سببا للنكسة . يقول الوردي :

" كان من نتائج النكسة التي حلت بنا في حزيران عام 1967 أن صار كل فريق منا يحاول أن يجد سببا للنكسة لكي يلقي اللوم عليه ويستريح ، وقد وصل الحال بالبعض منا إلى حد أنه اعتبر غناء أم كلثوم أحد أسباب تلك النكسة . ولكن أمرا واحدا غفلوا عنه في هذا الصدد هو ولعنا المفرط بالشعر ، ولست أدري لماذا غفلوا عنه مع العلم أنه أجدر بأن يكون سببا للنكسة من غناء أم كلثوم " .

وقد يكون الوردي أول من استخدم مصطلح " التفكير الشعري " في تفسيره لنكسة الخامس من حزيران :

" إن هذا النمط من التفكير الحماسي – وهو الذي يصح أن نسميه بالتفكير الشعري – لم يقتصر أثره على الشعراء فقط بل شمل أيضا الكثير من المفكرين وحملة الأقلام والخطباء ، فهم جميعا يجرون على طريقة واحدة هي طريقة عمرو بن كلثوم : ( ماء البحر نملأه سفينا ) " .

ويضرب الوردي مثلا على هذا النمط من التفكير في طريقة فهم أسباب الانتصار وأسباب الهزيمة للحدث الواحد . فهم غير قادرين على رؤية أسباب الهزيمة بنفس القدرة على تشخيص أسباب الهزيمة . إنهم مصابون بنوع من " العمى النفسي " الذي يجعلهم لا يرون جوانب من الحقائق دون غيرها رغم وضوح الجوانب الأخرى من ناحية ، ويؤولون الحقائق الأخرى بخلاف حقيقتها من ناحية أخرى . يضرب الوردي مثلا على ذلك بتجربة " حربية " كي تكون موازية للنكسة " الحربية " في حزيران ومن جنسها ، ألا وهي تجربة ثورة العشرين ، التي اعتبر أصحاب التفكير الشعري ، حسب الوردي ، أن النصر فيها قد تحقق بسبب وطنية العشائر واستماتتها في القتال ، ولكنهم اعتبروا الهزيمة ناجمة عن " مؤامرة " استهدفت الثورة . إن الوردي يعلن عن اعتزازه بالثورة لكنه يحذر من الاعتزاز بها على طريقة الشعراء . إنه يعتبر انتصار العشائر المسلحة بأسلحة بدائية على جيش معاد مسلح بالمدرعات والطائرات نوعا من الحدث الشاذ الذي حصل على طريق’ الأهزوجة المعروفة " الطوب أحسن لو مقواري – كما يسمّيه الوردي " . ولكن لا يجوز جعل تفضيل المقوار – هذه الأداة البدائية – على المدفع المتطور قاعدة للعمل العسكري يعتمد عليها الثوار في كل ثورة يقومون بها أو حرب يخوضونها . وهذا ما يقوم به الشعراء الذين استمروا في كتابة القصائد التي يمجدون بها المقوار الذي يغلب المدفع دائما ، وأننا مادمنا قد انتصرنا " سابقا " فنحن سننتصر مستقبلا . والنتيجة المهمة التي يصل إليها الوردي هو أن انتصار مصر في صد العدوان الثلاثي عليها عام 1956 يشبه من بعض الوجوه انتصار العشائر العراقية في ثورة عام 1920 ، وأن السياسيين المعنيين لم يحاولوا دراسة الظروف التي اجتمعت وأدت إلى ذلك الانتصار ، ولم يدركوا أنها ليس من الممكن أن تجتمع مستقبلا . " ولكننا اغتررنا بأنفسنا وتملكنا الحماس والفخار المغالي فيه ، وملأنا الجو بالأناشيد " .

الـعـــــودة للصفحــــة الرئيســـــةالعـــدد 14

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة

تكست -العدد 14 -مشاكسة الرؤى في " معاً تقلدُ الوردة مداها "كتب *خضر حسن خلف

مشاكسة الرؤى

في

" معاً تقلدُ الوردة مداها "

*خضر حسن خلف

ما زالَ الشعرُ ، في اطارِ ولع المهتمين به يتحملُ الكثير من الشد والجذب ، والتطرف والرغبة في تجاوز السياق الآني الى حيث الاسلوب الذي يكوّنُ ذائقةً جمالية خاصة ويسهمُ في اختزال الرؤية تحت شفافية الغموض ويضيفُ بهذا التشكيل شرعنةَ نُظم جديدةٍ الى الاختبارات الفنية المستمرة على موجات النص . فنجدُ هذا التشكيل الفني مختلفاً في تعميق الرؤيوي في البعد الشعري ، وتألقاً في تفجير السياق اللغوي في فضاء التراكيب الصورية . حيثُ الوحداتُ أو الجمل تبدو وكأنها خرق ، مع تجاورٍ مستحدثٍ بين الكلمات المتحفزة للقفز عن معانيها القاموسية . وكأنّ المشهد في القصيدة : " رقعةٌ يرمى فوقها نرد " حسب ماكس جاكوب. ولم تكن القصائد المكتوبة من قبل الشعراء الجدد حلميةً بحتة كمجازفةٍ لعبوية شعرية لا غاية لها ، وانّما الوعي فيها يلعبُ دوراً أساسياً في الاحاطة والتراكيب . وينبري كمقتصٍ لتلك اللحظات الشعرية من أجل كشف حقيقةٍ ما . ويمكن الاستدلال عليها من قبل حسية المتلقي الشعرية. وقصائد المجموعة الشعرية " معاً نقلدُ الوردة مداها " تتمحورُ في كلّ ذلك على النحو الذي تسعى فيه الى الاستحواذ على التكثيف المتجوهر في منطقة القيمي والجمالي.

ومن ذاك تكتسبُ أهميتها في المغامرة خلال الخلق الفني لعالم فريدٍ من العلاقات اللغوية والدلالات التي تشي بالغرابة. والشاعرُ منذُ البدء يعلنُ انتماءه الى الاداة التعبيرية المبتكرة ، ويعكسُ عمقه المتممثل في السياق البنائي للعنوان . فهو مفتتحٌ يلجُ بنا في فضاء خيالٍ يتماهى على الكثير من الاحتمالات اذ يؤسّسُ لنمط ذي حساسيةٍ تصدم الذائقة المتوارثة ويكشف عن حالةٍ ، لا محدودية للغة فيها . فهو يواشجُ بين ( الجمع) الذي ترمي اليه ( معاً) كمخاطب يتوسل به وظيفياً مع ما يدلّ عليه ( المفرد) في رمزية " الوردة " و " مداها" ، الفضاء المشاغل لتجربة الذات الشاعرة . وانّ لعتبة العنوان ضوءاً يكشفُ عمّا تلوحُ به بعض قصائد المتن وليس للقصيدة المسماة به وحدها. وهذا يعني انّ سياقاً رؤيوياً يشتغلُ عليه الشاعرُ ويؤسسُ لمعادلةٍ في النظر الى فرض حيوية اللغة ومدياتها في اسلوب خاص ومتماسك في الكتاب. فيركب من أبعاد ( العام) صوراً ( للخاص) على نحو تتمظهر خلال الوحدات متقاطعةً ، وتضئ الحقيقي المستتر :

" كانَ يعيدُ

ترتيب النهر ليضمن سلامة مجراه

بينما الساقية حجرٌ بلّلها" ص 17

أو :-

" كنت أشرب من كلامك

مشاكساً العطش فيه " ص 29

أو :-

" سرْ مع نحولها ،

انّهُ البديلُ لتلك العيون " ص 70.

ان اللغة الشعرية المشتغلة على سياقِ تجربة الشاعر ليست مجردَ وسيلة تتماهى بالفكرة على نحو فطري ، وهيَ في الوقت نفسه ليست غايةً تظهرُ تعاليها على الانفعالي بل هي اسلوبٌ يتجلى في ارادة الكشف من الدواخل بالوسائل الخاصة. ويعني هذا انه – أي الشاعر – استوعب التعريف المعروف : " انّ الشعر كشفٌ ومعرفة ". فالكشف : طرق المثير من الحياة والكون ، مستفزاً في الاخر التساؤل ، ومحاولة التغيير عن طريق الاثارة . فالشعرُ " يكشفُ ولا يحيط " و " يوحي ولا يعلم " . أما المعرفة : تطلعٌ ، وتجاوزُ لواقع الامكانات المتاحة. وحسب مفهوم تشومسكي الذي يراها في النظام اللغوي : " تنطوي على امكانات وجوده تعابير لم يسبق لها ان خرجت الى حيز الوجود ولم ينطقها أحدٌ أبداً . وستبقى هذهِ الامكانية قائمة مهما حاول الباحثون أنْ يستقرئوها".

ونتلمسُ هذه القدرة التي لها الاثر على السلوك خلال تمثله تلك المفاهيم في القصائد :

" الشعراء عند الكتابة أدوات

الرجالُ أدوات :

رجالٌ كالمنفعة

رجالٌ كالشبهة قوامون على التعب

ينامون فيغفو

معهم مزيدٌ من السمع والبصر

رجالٌ كالحصرم ضاعوا من أجلِ

العنب

رجالٌ في سرور الضوء صاروا

لهبةً في شموع

استريني أيتها الغصة

من وردة تندلعُ سخاماً ص 94.

انّ تلك المنطقة الخاصة التي يحاولُ ان يتلمس قدرته فيها تظلّ تؤطر شعرية خطابه بما هو ضاغطٌ من الاشارات والدلالات لرؤاه المستترة ، فيعملٌ على تخصيبها بقدرٍ كبير من التحرر ، ويشتغلُ عملياً على نسقي الشعرية ، الجمالي والثقافي. اذ انّ هذين النسقين يتبلوران من خلال التقنيات الشعرية الفاصلة بين الشعر واللاشعر ، حتى لا يبقى الشعرُ في دائرة اللعب بالادوات :

نعرفُُ

انّ القفل محكمٌ

لكننا نتنزهُ خارجه

نعرفُ

أنّ الهروبَ لا يلامسنا ،

نقارنُ تدهورنا باصرار

المفاتيحُ

لديها أسرار اكثر مما للغرف

من جاذبية

لتكن سعيدة هذه اليقظة

ترى في تبتلها أضعاث هدايا" ص 55.

لا شكّ في أن ما توحي به قصائد المجموعة من دوال عائمة في المشهد الشعري الذي يكتبه الشاعر علي البزاز يحفز المتلقي نحو قراءة ثانية متأملة ليقترح لملمة لشتات الرؤى المشاكسة في تراكيبه الغريبة في بوتقة الاستيعاب للمشهد ، اذ انّه " يخلق ، بمجازاته الفريدة ، عالماً من العلاقات والدلالات ، لا تعود معه الاشياء كما نعرفها ، ولا اللغة كما نكتبُ بها" كما يقول على حرب على غلاف المجموعة .

*شاعر عراقي

الـعـــــودة للصفحــــة الرئيســـــة – العـــدد 14

العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة