بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية بين الواقع والمثال
*جاسم العايف
يحدد الناقد "جميل الشبيبي" في كتابه "بناء مدينة الرؤيا في القصة العراقية القصيرة- محمد خضير إنموذجاً"* ظهور قصص الرؤيا في العراق بين عامي 1909 -1920 وبحسب كتاب "نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق" للدكتور عبد الإله احمد، متخذة الأحلام أو الرؤيا في المنام أساساً في بنيتها وكان الهدف لهذا النوع من الكتابة الأدبية هو" تنوير المجتمع وتثويره باتجاهات مغايرة للاحتلال العثماني والبريطاني" الذي أعقبه ، ويعزو الناقد الشبيبي السبب الذي دعا كتاب تلك المرحلة لاعتماده، إلى الاعتقاد المترسخ في الذاكرة الجمعية الشعبية بأهمية الرؤيا في كشف المجهول والتنبؤ بالمستقبل ، كما انها-الرؤيا- تعتبر وسيلة للتخفي من بطش القوى المتحكمة اجتماعياً آنذاك،ويعدها بأنها"تقنية ، تستخدم الخيال المقنن،ومفارقة الواقع المعيش،لإنشاء الرؤيا البديل" والسارد فيها ، متحدثا غالبا بـ"ضمير الأنا" مؤشراً زمن الرؤيا ومكانه ، كما يستثمر القاص في تلك الرؤى تقنيات الحلم،بشكل بدائي، حيث يلتقي السارد أشخاص خياليين او ممن وردت سيرهم أو أسمائهم في السجلات التاريخية، ويحدد الشبيبي بنية الرؤيا وسماتها بالنقاط التالية-: السارد فيها يمتلك حرية التنقل في مكان الرؤيا ، ولقاء السارد بشخوص يمكن اعتبارهم من العوامل المساعدة في تحقق الرؤيا، وان معظم قصص الرؤيا تتداخل فيها الأزمان أو تتوقف،وبعد اكتمال الرؤيا او تحقق الحلم يعود السارد الى واقعه مؤكداً إن ذلك كان حلماً ، وهي تقنية يذكر الناقد أن بعض الفلاسفة المسلمين اعتمدوها لكتابة قصص يصفها بـ"الرمزية لطرح وتوضيح مفاهيمهم الفلسفية الدينية". وخلال بحثه في القصة العراقية يرى إن هذه الأعمال الأدبية نشرت جميعها تحت مصطلح (الرؤيا) ويستثني القاص(عطاء أمين) الذي ذكر في هامش عند نهاية رؤياه( كيف يرتقي العراق)جاء فيه:" كل ما جاء في هذه القصة من الاخبار والأوصاف والصلوات حقيقية لا دخل فيها للخيال"، ويعد الشبيبي أن الدكتور عبد الإله احمد أول مَنْ استخدم مصطلح (قصص الرؤيا) وكان له فضل الريادة في التعريف بها، إلا انه- د. أحمد- لم يذهب الى توصيفها نظريا أو يعمد لتحديد نقدي واضح لاشتقاق المصطلح أو التعريف به ، وكل الكتابات النقدية التالية لكتاب د. عبد الإله ،"نشأة القصة العراقية وتطورها في العراق" ، اعتبرت هذه الاعمال من النوع القصصي البدائي باستثناء الناقد الأستاذ "ياسين النصير"، الذي وضع لها مواصفات خاصة ، مقترحا قراءتها بصفتها "ليست بالمقامات ولا بالقصص الحديثة وإنما: هي نمط له فنيته وخصائصه" . يلاحظ الناقد الشبيبي إنه وفي منتصف الستينيات من القرن المنصرم بروز اتجاه في القص العراقي القصير بدأ بتوظيف الأحلام والكوابيس لإنشاء عالم عده بالـ"فنتازي" تسوده "الرؤى الخانقة" ، وأعاد ذلك إلى الاستثمار الواضح لمنجزات علم النفس التحليلي على وفق مفاهيم " فرويد" وكشوفاته المختلفة لعالم اللا شعور. وفي الواقع ان ذلك صائب ، إلا انه لم يتطرق إلى الدوافع والمسببات التي حدت بقصاصي المرحلة الستينية ، اعتماد تلك التقنيات ، ولعل جزء منها يعود إلى الهزائم العامة الاجتماعية التي أصابت الحلم العراقي جراء الإحداث المرعبة التي ميزت الحياة العراقية منذ تموز 1958 ، وما تلاها من فجائع تعرض لها المجتمع العراقي وأصابت أحلام ورؤى وتطلعات ومشاريع الانتلجينسيا العراقية في الصميم ، وقد خضع القاص العراقي في تلك المرحلة لتأثيرات وضغوط اجتماعية- سياسية متواصلة متوترة،مما انعكس بوضوح على نتاجا ته القصصية وطرائقه السردية بأشكال مختلفة من انفعالات ذاتية وأزمات فكرية، وعوامل أخرى لا مجال للتطرق إليها في هذه القراءة الملخصة. يؤكد الناقد "جميل الشبيبي" ان القاص العراقي "منذ نشأة القصة العراقية ولغاية اليوم دأب على التجريب والتجديد في أشكاله الفنية"، ومع عمومية هذه النظرة وشموليتها لكل التراث القصصي السردي العراقي دون استثناءات ما، ألا أنه يستدرك و يحدد بعد ذلك أهم الانعطافات في السرد العراقي القصير بما أسماه تاريخيا بـ"القصة الواقعية الخمسينية"عندما أُعتمد "تيار الوعي" وتم توظيفه فنياً في القص العراقي القصير ، وفي الستينيات تم استثمار "الحقول المجاورة فنياً للسرد" ومنها"الرسم والسينما" وبذا تكون القصة العراقية القصيرة، قد غدت على "عتبات التجديد والتجاوز كنزعة أصيلة فيها" ، محدداً أن القصص العراقية القصيرة التي نشرت في بداية العقد التسعيني، وهو العقد الذي شهد حصاد حرب الثمان سنوات المدمرة والذي افتتح أيضا بحرب أخرى أجهزت على ماعافته الحرب الأولى، مسلمة العراقيين لحصار دام مرير قاس طال كل شيء، مما ولد قصة "رؤيا اتسعت واستوعبت أشكال التناص المختلفة مع لغات أدبية وغير أدبية "، كما تم، "استثمار إمكانات التقطيع والمنتجة والكولاج " وهي حقول تنتمي إلى الحقلين السينمائي والتشكيلي وبذا تم" إنشاء خطاب فني- معرفي يعمل على توسيع إمكانات القصة القصيرة العراقية ، ويمدها بنسغ يطوّرها وينوع مادتها وشكلها" . يدرس الشبيبي مجموعة (رؤيا خريف) للقاص محمد خضير كنموذج تطبيقي لتصوراته ورؤاه الفنية والنقدية عن قصص الرؤيا الحديثة في العراق. ويرى أن في هذه المجموعة تجديد واضح في فن الكتابة القصصية القصيرة من ناحية بناء الشخصيات والحبكة والمكان والزمان الواقعيين وكذلك يُفعّل القاص خضير التجديد في اللغة السردية أو ما يعرفه الشبيبي بـ "تهجين اللغة" وهو مصطلح مستعار يختص تحديداً بالملمح الأسلوبي الذي يجعل نصاً من النصوص أو لفظاً من الملفوظات ينتمي إلى سجلات وجداول لغوية ادبية و غير ادبية تختلف على مستويات البنى التركيبية والشكلية والتعبيرية - ص 168- ويؤكد الناقد انه في دراسته لمجموعة "رؤيا خريف" قد اعتمد نظام المخطوطة العربية بصفته متناً تحيطه الشروح وشروح الشروح ، وهو نظام افتراضي يجتهد الناقد في تطبيقه على المجموعة بسبب من أن القاص محمد خضير قد ذهب إلى إن قصص "رؤيا خريف" متضامنة في الرؤى ومتكافلة في البراهين ومتكافئة مع النتائج - ص41- وقد درس الناقد الشبيبي مجموعة "رؤيا خريف" من خلال بنية السارد ومكان الرؤيا وزمانها وهجانة لغة السرد وقد توصل في دراسته إلى اجتراح مصطلح نقدي جديد اسماه (السارد الرائي) بسبب من أن البنية السردية في المجموعة تمتد في الشبيه للقرين الذي يمثل تقنية ملائمة لسرد الرؤيا وبنائها، و(السارد الرائي) هنا يغدو هو الموكول بسرد الرؤيا وتجسدها عيانيا إذ انه لا يرى ما يراه السارد الاعتيادي و تتجلى أمام السارد الرائي مشاهد متداخلة بأزمان مختلفة في المكان المخصص لانبثاق الرؤيا. ويخص الشبيبي قصة (رؤيا البرج) بدراسة تطبيقية ، كما يبحث في ريادة قصص الرؤيا في العراق عاداً القاص عطاء أمين وقصته (كيف يرتقي العراق؟/ رؤيا صادقة) المنشورة في آب 1919 قصة رائدة في مجال قصص الرؤيا واكتمال شكلها في القصة العراقية الحديثة و يعيد نشرها في كتابه. يمكن اعتبار كتاب الناقد جميل الشبيبي من كتب البحث التخصصي في دراسة هذا النوع من القص الذي يعتمد(الرؤيا) القصصية التي تسعى لتقديم بديل للواقع الفظ المعيش ويكشف الشبيبي بمتابعته التاريخية والتطبيقية لهذا النوع من السرد المقترن بقدرات الذهن البشري ومعطياته المتجددة من ناحية اقتراب الواقع من المثال .
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* الموسوعة الثقافية / دار الشؤون الثقافية العامة/وزارة الثقافة/بغداد .
*كاتب عراقي
الـعـــــودة للصفحــــة الرئيســـــة – العـــدد 14
العــــــودة للصفحـــة الام - تكست جريدة شهرية ثقافية مستقلة